الفيتو الأمريكي- مذبحة الأمم المتحدة ونظام عالمي متهاوٍ

المؤلف: حسن أوريد11.14.2025
الفيتو الأمريكي- مذبحة الأمم المتحدة ونظام عالمي متهاوٍ

إنها لمذبحة دامية جديدة، تتوازى مع المجازر المروعة التي تشهدها غزّة الباسلة، ولكن ضحيتها هذه المرة هي منظمة الأمم المتحدة ذاتها. القذيفة المهلكة التي أصابتها في الصميم ليست سوى الفيتو الأميركي المشؤوم، والذي أطاح بمشروع القرار الداعي إلى الوقف الفوري لإطلاق النار، وهو المشروع الذي تقدمت به الجزائر، العضو الممثل للعالم العربي في مجلس الأمن.

إن المقاصد النبيلة التي تأسست من أجلها الأمم المتحدة، والمتمثلة في إرساء السلام العالمي وتعزيز الأمن والاستقرار، باتت اليوم في مهب الريح، إذ تحولت غاياتها السامية إلى نقيضها تمامًا. فبدلًا من أن تكون ملاذًا آمنًا للمظلومين، أضحى وقف إطلاق النار "جريمة" يُعاقب عليها، في حين أن استمرار العدوان الغاشم على الأبرياء والعزل، ومواصلة الدمار الشامل يُعد "فضيلة" مُغتفرة من قِبل أعلى هيئة في الأمم المتحدة، ألا وهي مجلس الأمن.

قد يكون مفهومًا استعمال حق الفيتو ضد قرار يسوغ استعمال القوة العسكرية، ولكن أن يُستخدم هذا الحق ضد قرار يدعو صراحةً إلى وقف الحرب، فهذا قمة العبث واللامنطق. إننا نعيش حقًا في عالم أورويلي بامتياز، حيث ينقلب فيه الحق إلى باطل، والباطل إلى حق، وحيث يسود انفصام خطير بين الأقوال والأفعال؛ إذ يتم التشدق بوقف الحرب في الخطابات الرنانة، بينما يتم تغذية نارها فعليًا على أرض الواقع. أما النظام العالمي الجديد الذي وعدت به الولايات المتحدة، والقائم على احترام القانون الدولي، فهو في حقيقة الأمر ليس سوى شريعة الغاب، حيث يسود منطق القوة الغاشمة ويتلاشى أي أثر للعدالة. إنه عالم خالٍ من خطر الدمار الشامل، ولكنه يستند في الوقت ذاته إلى أكاذيب واهية قوّضت بُنى دول بأكملها، وهلهلت نسيج مجتمعات بأسرها، وأشعلت فتيل الإرهاب والتطرف. أما محور الشر أو الدول المارقة، فليس هو ما قد يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى، وإنما ما تصنفه الولايات المتحدة على أنه كذلك، خدمةً لمصالحها الضيقة.

إن العدو الأكبر للعالم العربي ليس سوى حالة التشرذم والانقسام التي يعيشها، وهو السلاح الأمضى الذي يستعمله خصومه ضده. ولن يكون لهذا العالم الفسيح مستقبلٌ مشرق تحت الشمس إذا استمر "النظام" العربي على ما هو عليه من ضعف وتخاذل.

كما يقول كلاوزفيتز، أولى الضحايا في الحروب هي الحقيقة، ولكن هذه الحقيقة تظل ماثلة كجثة هامدة، تفضح عن نفسها من خلال الرائحة الكريهة التي تفوح منها. إنها تنبعث كشبح القتيل غيلة، كما في مسرحية هاملت الشهيرة، لتُحدثنا عما يريد المتآمرون التستر عليه وإخفائه.

إن أولى الحقائق التي فضحها الفيتو الأميركي على المقترح الداعي إلى الوقف الفوري للحرب على غزّة المحاصرة، هي أن الولايات المتحدة هي طرف أساسي وشريك فاعل في التقتيل الممنهج الذي يجري على أرض غزّة، وأن جميع التصريحات والخطابات الجوفاء التي تتحدث عن شجب التجاوزات، واستياء الإدارة الأميركية من التطرف الإسرائيلي، ليست سوى ذر للرماد في العيون. فالتقتيل يتم بترسانة أسلحة أميركية الصنع، وبدعم استخباراتي سخي منها، وتغطية دبلوماسية شاملة، بل وبتعاون ميداني وثيق.

أما حل الدولتين، وحق الفلسطينيين في العيش بكرامة، فهي مجرد وعود معسولة وخدمة كلامية لشعوب تؤمن بالخطابات الرنانة، من وجهة نظر الولايات المتحدة، وبشكل الخطاب دون مضمونه الحقيقي. فشعوب هذه المنطقة لديها قدرة فائقة على النسيان، وردود أفعالها مجرد فقاقيع عابرة سرعان ما تنتفخ ثم تنطفئ، أو كنار الهشيم التي ما تكاد تشتعل حتى تخبو... وفي جميع الأحوال، يمكن تعطيل طاقات العالم العربي، من خلال توظيف تناقضاته الداخلية أو البينية.

وثاني الحقائق الصارخة هي أن الأمم المتحدة ليست سوى محفل للخطابات الفارغة، وتفتقر إلى الضمير الحي، وليست أداة قانونية رادعة، ولا تمتلك أي قوة ردعية حقيقية، على الرغم من النوايا الحسنة لمسؤوليها، والجهود الجبارة التي تضطلع بها بعض مؤسساتها. فالغاية ليست مجرد تضميد الجراح ومواساة المكلومين، بل منع وقوع الجرح من الأساس، وتمكين المجتمع الدولي من معاقبة المعتدي، ولكن في هذين الأمرين تحديدًا، تقف الأمم المتحدة عاجزة ومشلولة، لا تستطيع إيقاف العدوان، ولا معاقبة المعتدي.

هاتان الحقيقتان تقوداننا بشكل حتمي إلى نتيجتين أساسيتين: الأولى أن القاطرة الأميركية التي قادت العالم منذ سقوط جدار برلين، تحت مسمى الأحادية القطبية، كانت قاطرة جائرة وظالمة، وأن النور الذي خبا، والذي تحدث عنه روديار كيبليتغ، والذي يحمله بعض التبشيريين في ركاب أميركا، هو في حقيقته نار تلظّت بها شعوب عدة. أو كما يقول إيمانويل طود، كانت الولايات المتحدة هي الحل الأمثل لمشاكل العالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولكنها تحولت إلى مصدر أساسي للمشاكل بعد سقوط جدار برلين.

أما النتيجة الثانية، فهي ضرورة تشريح حالة الأمم "المتحدة"، التي هي أبعد ما تكون عن الوحدة والتكاتف. فهي مجرد منظومة تُكرس توافق القوى المنتصرة بمقتضى لقاء يالطا التاريخي، الذي عقد عقب الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي كانت فيه أغلب دول العالم ترزح تحت نير الاستعمار، سواء في أفريقيا أو في آسيا. وكان حق الفيتو مكافأة للدول التي ساهمت في الحفاظ على النظام الدولي من الانزلاق الذي كانت تمثله دول المحور، ولكنه لم يكن مجرد حق مكتسب، بل مسؤولية قانونية وأخلاقية جسيمة لا يمكن استعماله إلا في الحالات القصوى التي يتم فيها تهديد الأمن والسلم العالميين بشكل مباشر.

هل يمكن الخضوع لمنظومة ظهرت في سياق تاريخي معين، والأخذ بقواعد تُكرس واقعًا تجاوزه الزمن؟ من الناحية النظرية، قد يكون ذلك ممكنًا، طالما أن المنظومة تحقق الأهداف النبيلة التي تأسست من أجلها، أما إذا فشلت وأضحى فشلها بنيويًا، فيتوجب إعادة النظر فيها بشكل جذري وشامل. والحال أن الأمم المتحدة لم تعد أداة فعالة لتحقيق السلم والأمن، وأن حق الفيتو لم يعد مسؤولية أخلاقية بل أداة حرب تستخدمها الدول الكبرى لتحقيق مصالحها الضيقة، ولم تتورّع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن في الاعتداء على دول أخرى من دون أي اعتبار لمظلة الأمم المتحدة أو لمبادئها.

العالم أرحب وأوسع من أن يختزل في خمسة أعضاء دائمين، كما يقول الخطاب الرسمي التركي، والحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة شاملة للأمم المتحدة وليس مجرد ترميمها أو تجميلها، أو إرساء نظام عالمي جديد بمؤسسات جديدة أكثر عدالة وإنصافًا.

ينبغي أن يبقى تاريخ استعمال حق الفيتو من قِبل الولايات المتحدة، في قضية غزّة، محفورًا في الذاكرة الجمعية، تمامًا كما نحتفظ في ذاكرتنا بتواريخ حاسمة في مسار عصبة الأمم البائدة، حين ضمت اليابان منشوريا في عام 1931، وحين غزت إيطاليا الحبشة في عام 1935، الأمر الذي عجل بانهيار عالم ما بين الحربين.

ولسوف يجد المؤرخون الأميركيون في الزمن المقبل الإجابة الشافية على فشل خطابهم التبشيري عن "البيت فوق التلة" الذي يزعمون أنه ينبعث منه النور، ولماذا انطفأ هذا النور فجأة، من خلال الفيتو الأميركي المشؤوم على وقف الحرب في غزّة. ولن يحتاجوا لإلقاء اللوم على الآخرين، الذين يتهمونهم بأنهم يحسدونهم على حريتهم وتعدديتهم وديمقراطيتيهم، كما يزعم الخطاب الأميركي الرسمي.

أما النتيجة الثالثة والأخيرة، فهي أن العدو الأكبر للعالم العربي ليس سوى حالة الفُرقة والتشتت التي يعيشها، وهو السلاح الأمضى الذي يستعمله خصومه ضده، ولن يكون لهذا العالم الفسيح مكانٌ تحت الشمس إذا استمر "النظام" العربي على ما هو عليه من ضعف وتخاذل.

نعم، هناك شيء عفِنٌ ومُنتن في مملكة (المنتظم الدولي)، كشفه الفيتو الأميركي بوضوح وجلاء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة